جو غريفين وإيفان تايريل (بتصرف)
الاكتئاب يقتل الناس. فالبؤس الذي يسببه الاكتئاب قد يخدع الإنسان ليظن أن حياته بلا أمل، ومن ثم يودي به إلى الانتحار. ورغم أنه ليس مرضًا بيولوجيًا، إلا أنه يبدو وكأنه “مُعدٍ”. والأدهى من ذلك أن فهم الناس له مشوَّه بسبب العديد من الأساطير: فبعكس ما يُشاع اتضح أن الاكتئاب لا ينتج عن خلل كيميائي في الدماغ؛ وليس غضبًا موجهًا إلى الداخل؛ ولا يجب أن يستغرق الخروج منه وقتًا طويلًا؛ كما أنه ليس من الضروري تحليل أحداث الطفولة، التي قد تكون السبب فيه، بتفاصيل دقيقة قبل تحقيق التقدم.
لقد ثبت منذ وقت طويل أن العديد من العلاجات، بما في ذلك الإرشاد غير التوجيهي، والعلاج السلوكي المعرفي، قد لا تكون أكثر فاعلية في علاج الاكتئاب من مجرد زيارات قصيرة معدودة للطبيب العام خلال فترة اثني عشر شهراً.
والآن، بعد أن تبيّن أن مضادات الاكتئاب قد تسبب آثارًا جانبية خطيرة، أصبحت الحاجة مُلحة أكثر من أي وقت مضى لكي يفهم العاملون في المجال الصحي، والمستشارون، والمعالجون النفسيون الاكتئاب، وأن يتلقوا تدريبًا فعالًا في كيفية معالجته.
إن الزيادة السريعة في معدل الاكتئاب، كما كشفتها الدراسات الوبائية، تُعد من أبرز الأدلة على أن الاكتئاب ليس مرضًا وراثيًا. فهناك كم هائل من الأدلة، نُشرت على مدار عقود، تظهر أن أغلب حالات الاكتئاب مكتسبة، ناتجة عن الطريقة التي نتفاعل بها مع بيئتنا.
وليس سبب الاكتئاب هو الأحداث الصعبة بحد ذاتها — فغالبية الناس الذين يتعرضون لظروف حياتية قاسية ولا يصابون بالاكتئاب — ويكمن السبب بالطريقة التي نستجيب بها لتلك الظروف.
وتدعم هذه الرؤية أدلة طويلة الأمد تُظهر أن الاكتئاب يستجيب استجابة جيدة لأنواع معينة من العلاج أو الإرشاد — تلك التي تكون نشطة، محددة بزمن، مركّزة على المشكلات الحالية، وتهدف إلى تخفيف الأعراض، لا تغيير الشخصية.
منهج (المعطيات الإنسانية)
يعتمد منهج (المعطيات الإنسانية) في العلاج على ما وُلدنا به — أي ميراثنا الجيني — من احتياجات جسدية وشعورية مجبولة فينا عبر التطور، والتي تسعى إلى الإشباع من خلال تفاعلنا مع البيئة، إلى جانب الموارد الفطرية التي زُودنا بها لمساعدتنا على تلبية تلك الاحتياجات. وعندما لا تُلبى هذه الاحتياجات العاطفية، أو حين تُستخدم مواردنا بشكل غير صحيح، نعاني من اضطرابات نفسية كبيرة — وغالبًا ما تكون على شكل قلق و/أو اكتئاب. يرتكز العلاج في هذا المنهج على البحث عمّا ينقص في حياة الإنسان والعمل على تهيئة الظروف لتلبية تلك الاحتياجات.
تشمل الموارد المتاحة لمساعدتنا على ذلك؛ القدرة على بناء الألفة، والتعاطف، والتواصل مع الآخرين. كما ويَعد الخيال أيضا مورداًً، إذ يمكنه أن يساعدنا في تحويل تركيزنا بعيداً عن عواطفنا لنتمكن من حل المشكلات بموضوعية أكبر. كما نمتلك القدرة العقلانية على التساؤل، والتحليل، وتطوير القدرة على “المعرفة” — أي فهم العالم فهماً باللاوعي من خلال مطابقة الأنماط بشكل مجازي.
في قلب كل هذه القدرات والوظائف، وربما الأهم من بينها، هو الدماغ الحالم، الذي يحافظ كل ليلة على سلامة إرثنا الجيني.
حيث يعتبر للأحلام دور أساسي وكبير لفهم شامل للاكتئاب، ولمعرفة سبب فاعلية العلاجات العملية في معالجته.
اكتئاب بسبب الأحلام
جميعًا نحلم لمدة تقارب الساعتين كل ليلة، حتى وإن كنا غالبًا لا نتذكر ذلك عند الاستيقاظ في الصباح. هناك أدلة تشير إلى أن وظيفة الأحلام، التي تحدث في الغالب خلال مرحلة حركة العين السريعة هي تمثيل مجازي لانشغالاتنا العاطفية المثيرة التي لم نعبر عنها – ليست لحلها – ولكن لتفريغ الاستثارة بطريقة رمزية ، مما يتيح للدماغ أن يتحرر للتعامل مع مشاغل اليوم التالي. وتساعد هذه العملية في الحفاظ على تكامل شخصيتنا الأساسية.
وفي حالة الاكتئاب، يختل هذا النظام بشكل كبير. فبدلاً من أن تكون نسبة نوم حركة العين السريعة حوالي ٢٥٪ ونسبة النوم العميق البطئ الموجه ٧٥٪ (وهو النوع الذي يعزز مستويات الطاقة في الدماغ) تنقلب النسب!
إذ يعاني معظم المصابين بالاكتئاب من كمية مفرطة من نوم حركة العين السريعة مقابل القليل جدآ من النوم العميق.
كما ويزيد التحليل الذاتي السلبي المطول والانطواء الداخلي – وهما من السمات الشائعة لدى الأشخاص المكتئبين- من مستويات الإثارة النفسية أكثر من المعتاد، وهذا بدوره يؤدي إلى حاجة أكبر لتفريغ هذه الإثارة أثناء الأحلام.
تبدأ مرحلة (حركة العين السريعة) في النوم مبكراً جداً لدى معظم المصابين بالاكتئاب و ذلك لحاجتهم الشديدة للتفريغ و يكون هذا الطور من النوم أيضآ أطول من المعتاد و يشهد معدلات تفريغ عالية جدآ.
لكن هذا التفريغ الزائد لا يقلل فقط من مستويات الإثارة في الدماغ، بل يثقل كاهله ويستنزف طاقته، مما يترك النائم في حالة من اللامبالاة والافتقار للدافع في صباح اليوم التالي. ولهذا السبب، يشتكي الكثير من المصابين بالاكتئاب من استيقاظهم وهم يشعرون بالإرهاق الشديد.
أظهرت تجارب أجريت منذ زمن بعيد في مختبر النوم أنه إذا تم إيقاظ الأشخاص المصابين بالاكتئاب في كل مرة يدخلون فيها في في مرحلة (حركة العين السريعة) فإن اكتئابهم يتحسن.
كما وأن مضادات الاكتئاب تقلل من مدة مرحلة (حركة العين السريعة) في النوم، ويعتقد بأن هذا هو السبب في قدرتها على المساعدة في تخفيف الاكتئاب. ويعد أولئك الأشخاص الذين يعودون إلى وضعهم الطبيعي هم أكثر عرضة للبقاء بعيدا عن الاكتئاب. (ومع ذلك، هناك طرق لتحقيق ذلك دون استخدام الأدوية، كما سنوضح قريبًا).
انفعال عاطفي شديد
ويمكن لاختبار بسيط للعاب أو دم شخص مصاب بالاكتئاب أن يظهر مستويات مرتفعة من هرمون الكورتيزول، وهو الهرمون الذي يرتفع عندما نكون تحت ضغط نفسي شديد. وتؤدي مواقف الحياة المجهدة إلى القلق، لكن الأشخاص المصابين بالاكتئاب يسيئون استخدام خيالهم من خلال قضاء وقت طويل في القلق والتفكير العاطفي المفرط. ولا يؤدي هذا التفكير العاطفي المفرط فقط إلى نوم حالم مفرط ( نوم حركة العين السريعة) ، بل يمنعهم أيضًا من رؤية أوضاعهم الحياتية بوضوح. فارتفاع الإثارة العاطفية يجعل التفكير الواضح أكثر صعوبة ويُعيق التفكير العقلاني.
كما ويمكن للأشخاص الذين لا يفكرون بطريقة حادة – يا أبيض يا أسود- الخروج من هذه الحالة العاطفية بسهولة أكبر. أما أولئك الذين يركّزون باستمرار على السلبيات، ويضخّمون المشاكل الصغيرة، ويتخيلون أسوأ السيناريوهات، فهم أكثر عرضة للبقاء عالقين في هذا “الترنّح الاكتئابي”.
لقد تبيّن أن الأشخاص الذين يأخذون الأحداث بشكل شخصي للغاية (يلومون أنفسهم على كل ما يسوء)، والذين يملكون نظرة شاملة وسوداوية تجاه الحدث السلبي (مثل اعتبار فقدان الوظيفة أو الحبيب نهاية لحياتهم كلها)، ويرون أن أثره دائم (يعتقدون أنهم لن يجدوا وظيفة أو حبيبًا آخر أبدًا)، هم الأكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب.
ومع فهم أوضح لماهية الاكتئاب وأسبابه، يمكننا البدء في التعامل معه والتخلص منه بشكل أسرع.
كيف تكسر دائرةالاكتئاب
الهدف الأساسي من الإرشاد النفسي في حالات الاكتئاب، والذي غالبًا ما يترافق مع القلق، هو تقليل التوتر والانفعال العاطفي، ومساعدة المريض بسرعة على كسر دوامة التفكير السلبي المفرط في الذات.
نجد باستمرار أنه من خلال استخدام مجموعة متنوعة من الأساليب المناسبة والمتوافقة مع الحاجات الفطرية للإنسان، يمكننا إحراز تقدم أسرع بكثير، حتى في حالات الاكتئاب الشديد، حتى من جلسة واحدة فقط، مقارنة باتّباع نموذج علاجي واحد بشكل جامد ومتقيد.
إنه من الأهمية بمكان (وفق منهجنا في العلاج النفسي) المزج بين تقنيات العلاج السلوكي والمعرفي والعلاج التفاعلي، إلى جانب أساليب الاسترخاء والتخيّل العقلي. بهدف توسيع أفق الشخص، وتعزيز ثقته بنفسه، وتمكينه من حل مشكلاته بفعالية.
كما أن العمل عن قرب مع المريض، وتقديم خطوات عملية لتفكيك المشكلات إلى أجزاء يسهل التعامل معها، وتشجيع المريض على التركيز على الحلول بدلًا من الغرق في دوامة القلق العقيم. واستخدام حس الفكاهة لكسر التفكير الثنائي الصارم (أبيض أم أسود)، وإعادة صياغة الأفكار السلبية بلُطف لتُقدَّم برؤية إيجابية جديدة. وتزويد المريض بمعلومات، ومهام صغيرة، وتشجيعه على ممارسة الرياضة أو العودة لهواياته أو مساعدة الآخرين—جميعها طرق تُعيد تركيز الانتباه إلى الخارج. وأيضًا الحرص على تنشيط الفضول والتحفيز الداخلي، ليقودا المريض تدريجيًا نحو التعافي الحقيقي.
الأهم من ذلك، أننا مساعدتهم على استخدام خيالهم من خلال التخيّل الموجه، ليمكنهم من رؤية أنفسهم بوضوح وهم يقومون بالتغييرات التي يحتاجون إليها لتجاوز صعوباتهم. هذا يستند إلى المبدأ المعروف منذ زمن بعيد بأن الدماغ البشري يحاول تحقيق ما يركز عليه. وهذا يساعد على ضمان التزام العميل باتخاذ الإجراءات اللازمة ليخرج نفسه من حالة الإرهاق التي يعيشها.
نتائج سريعة
يمكن لهذا النهج العضوي المتكامل بين العقل والجسم أن يحقق تحسناً في حالة الاكتئاب خلال وقت أقل من الكثير من مناهج العلاج مقارنة، في تجربتنا، وعندما يدرك العملاء أن تأملاتهم السلبية تسبب لهم الأرق ليلاً والإرهاق نهارًا، يتحفّزون بسرعة للعمل على كسر دائرة الاكتئاب.
References
Yapko, M D (1999). Hand-me-down Blues. Golden Books.
King, M, Sibbald, B, Ward, E, Bower, P, Lloyd, M, Gabbay, M and Byford, S (2000). Randomised controlled trial of non-directive counselling, cognitive behaviour therapy and usual general practitioner care in the management of depression as well as mixed anxiety and depression in primary care. Health Technology Assessment. 4, 19.
NHS Centre for Reviews and Dissemination. The University of York. Counselling in primary care. Effective Matters (2001), 5, 2, 1—6.
See https://rxisk.org/side-effects-of-antidepressants/
Yapko, M D (1997). Breaking the Patterns of Depression. Doubleday.
Diagnosis, Vol 2 Treatment Aspect. United States Public Health Service Agency.
Griffin, J. and Tyrrell, I. (2003, 2013, 2024). Human Givens: An empowering approach to emotional health and clear thinking. HG Publishing.
Griffin, J (1997). The Origin of Dreams. The Therapist Ltd.
Vogel, G W (1979). The Function of Sleep. Drucker-Collins et al (eds). Academic Press, New York. 233—250.
Nemeroff, C B (1998). The neurobiology of depression. Scientific American, 278, 6, 28—35.
LeDoux, J E (1998). The Emotional Brain. Weidenfeld & Nicolson.
Griffin, J and Tyrrell, I (2001 edition). Hypnosis and Trance States. European Therapy Studies Institute.
Peterson, C and Seligman, M E P. Causal explanations as a factor for depression: theory and evidence. Psychological Review, 91. 341—374.
Griffin, J and Tyrrell, I (2000). Breaking the Cycle of Depression. HG Publishing
المصدر (آخر مراجعة: يناير 2024)

تُعبّر المقالات غن آراء أصحابها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع.