كيف يَطمئن الناس في غزة؟ أُمٌ تُخبرنا

آلاء – أم غزة

في هرم ماسلو، لا يصعد الإنسان درجات الحياة بثبات إلا إذا وطأ قدمه على أرض الأمان، فبعد لقمة تسد الجوع، وجرعة تروي الظمأ، يأتي الأمن، لا كترفٍ، بل كضرورة. إنه ليس مجرد بندٍ نظري، بل هو جذرٌ تمتد منه كل فروع الحياة.

حين تحدث ماسلو عن الأمن، لم يكن يعني محض جدران تحيط بك، بل سكينةً تسكنك، كان يقصد ذاك الهدوء الذي يربت على قلبك آخر الليل، وأن تغفو دون أن تُفزعك خطوات الموت، أو صفير الرعب. 

أما الأمان، فهو ألا يكون حولك ما يُهددك،  أن تمشي دون أن تلتفت، أن تضحك دون أن يُخيفك ضوء السماء أو ظلّ الأرض.

فهل حقًا تدور عجلة الحياة إذا غابت تروس الأمن؟ هل للنجاح معنى إذا كان الخوف يقتات من أطراف القلب؟ هل للحلم جناح إن كانت السماء تمطر نارًا لا أملاً؟

قبل أن نُجيب، علينا أن نُسمّي الأشياء بأسمائها: ما نعيشه في غزة ليس قلقًا عابرًا، بل خوف مقيم، ليس اضطرابًا مؤقتًا، بل زلزالٌ دائمٌ. والخوف له ألوانٌ لا تراها العين، بل تشعرها الروح، وله طبقات،  بعضها يتسلل كـ”ماذا لو؟”، وبعضها يهجم كقذيفة، لا تمنحك لحظة للهروب، ولا مساحة للنجاة.

سأذكر بعضًا من أسباب الخوف، لا على سبيل الحصر، بل على سبيل الألم المتجدد الذي لا تنتهي وجوهه. خوفٌ من غد يشبه هاويةً لا قاع لها، ولا ضوء في نهايتها: من صوت انفجار يمزّق السكون، من زئير دبابة تشقّ الأرض، من مشهد أشلاء متناثرة كأحلامنا، من حريقٍ يأكل جسد إنسانٍ حي ونحن ننظر عاجزين!

خوفٌ من النزوح؛ نزوح الجسد والروح؛ أن تُجرد من دفء فراشك إلى برد خيمة لا تنتمي إليها، أن تُقتلع كما تُقتلع شجرة من جذورها،  أن تُنتزع من بيتٍ كان يحتوي نبضك، من جدارٍ علّقت عليه ذكريات طفولتك، خوفٌ من الفقد؛ فقدان فلذات الأكباد، أو فقدان عام دراسي كان يعني مستقبلًا، أو فقدان طرفٍ كان يعانق الحياة.

ذات مرة، كنت أمشي في مخيم النازحين، فرأيت طفلًا في العاشرة، بلا قدمين كان يراقب الأطفال يلعبون الكرة، كان يضحك، أما أنا، فأكملت طريقي وأجهشت بالبكاء. 

قلت في نفسي: ليته كان مشهدًا من مسلسل، ليته مشهد تمثيلي ينتهي مع نهاية الحلقة. لكن لا كاميرا هنا، لا مُخرج، ولا مشهد أخير.  لقد كان الحقيقة؛ الحقيقة القاسية التي لا يقطعها إعلان، ولا تنتهي عند شارة النهاية.

والخوف -أيضاً- من رواسب الحرب على أرواحنا؛ هل سنعود كما كنّا؟  هل سنتأقلم؟  فكما تُبتر الأطراف،ةتُبتر أجزاء من الروح، ولا تُرمم بسهولة.

والخوف من الناس أنفسهم، من ضغوطهم، من تغير أخلاقهم تحت ضغط الحرب، من تحول الأيدي الممتدة للعون إلى أيدي تُزاحم على البقاء.

وتطول قائمة الخوف!.

هذا هو الخوف حين يعيش معنا، لا نزوره، بل يسكننا.  ورغم ذلك، نحن نبقى.  نخاف، نعم، لكننا لا نفقد الأمل.  وننزف، لكننا لا ننهار.  لأننا نحن؛ أبناء الحياة رغم أنف الموت.

ووسط هذا كله، نعيش، لا لأن الحياة بخير، بل لأننا أقوياء. نحيا رغم كل ذلك، لأن في القلب بقايا إيمان بأن الفجر، وإن تأخر، فهو لا محالة قادم.

وأسباب الطمأنينة في القلب كثيرة

١- اليقين وقلب يؤمن بالله

في غزة، حيث يُقصف الليل ويُطعن النهار، وحيث ينهار الركام على الركام، قد تتخيل أن الوجوه لا تعرف إلا الذعر، لكنك إن اقتربت قليلًا، سترى ما يُخالف المنطق: وجوهًا تحمل الطمأنينة وسط النيران. 

وإن سألت: من أين لكم هذا السكون؟ 

ستجيبك العيون قبل الأفواه: من الله، ثم من اليقين.

الغزي المسلم، رغم ما يمرّ به من ألم لا تحتمله الجبال، يحمل في قلبه طمأنينة عميقة لا تُشبه إلا الطمأنينة التي يُلقيها الله على عباده المؤمنين في أحلك اللحظات.

طمأنينة لا تأتي من خيمة آمنة، ولا من وعد بعلاج، ولا من ضوء كهرباء نادر، بل تأتي من قلبٍ آمن بالله، مطمئنٌ بحكمته، ثابتٌ على رجائه.

٢- الإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره

الغزي لا يعيش عبثًا، بل يوقن أن كل ما يجري، مهما اشتدّ، هو بقدر الله. 

﴿ أَيْنَمَا تَكُونُوا۟ يُدْرِككُّمُ ٱلْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍۢ مُّشَيَّدَةٍ ﴾

يقول في سره: “ما أصابنا لم يكن ليُخطئنا”، فيهدأ قلبه حتى وسط أزيز الطائرات. 

﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ ٱللَّهِ كِتَٰبًا مُّؤَجَّلًا ۗ وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِۦ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ ٱلْآخِرَةِ نُؤْتِهِۦ مِنْهَا ۚ وَسَنَجْزِى ٱلشَّٰكِرِينَ﴾

هو يعرف أن الموت حق وأن الله يراه، ويسمع دعاءه، ويرافقه في وحدته، وهذه المعرفة كفيلة بأن تُطفئ حرائق الداخل.

 ٣- الشهادة ليست موتًا، بل حياة

حين يفقد الغزي ابنه أو زوجته أو صديقه، يبكي قلبه، نعم، لكنه في الوقت ذاته، يُمسك بعقيدة راسخة: 

أن من يُقتل مظلومًا في سبيل الله، قد سبقنا إلى جنات الخلود. 

﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾

يُشيّع الشهيد كما لو كان يُزفّ إلى العرس، يحمّله على الأكتاف بالدموع، لكن ليس بالانكسار. 

إنه يرى في الموت حياةً أبدية، وهذا، وحده، يصنع سكينة لا يُفسّرها العقل.

 ٤- القرآن والذكر؛ وطن الروح في المنفى

﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾

في ظلمة الخيام، ووسط الصمت المُفزع، يُفتح المصحف، ويعلو الصوت المرتجف بتلاوة “إن مع العسر يُسرًا”.  

الأم، الطفل، الجريح، المكلوم، الجميع يفتحون قلوبهم للآيات، ويتشبّثون بها كما لو كانت الحياة ذاتها. 

الذكر ليس عادة، بل أوكسيجين. هو ما يُبقينا أحياء دون أن نتفكك من الداخل.

٥- العزّة بالصمود؛ لا يُهزم من عرف حقه

الغزي يشعر أنه في موقع الرباط، وأنه يُدافع عن الأرض والحق والمقدسات، هذا الإحساس، رغم الألم، يمنحه عزّة وكرامة لا توصف. هو يعرف أنه ليس ضحية فقط، بل صاحب حق، وهذا المعنى يغمره بالسكينة وسط الهدم.

٦. التكافل؛ طمأنينة القلوب المُجتمعة 

في غزة، لن تسقط وحدك، إن سقط بيتك، سترى بيوتًا تفتح لك أبوابها.  وإن جُرحت، ستجد من يمسح دمك بيده، وإن بكيت، هناك دائمًا من يسمعك ويقول: “أنا هنا”. 

هذا التلاحم، هذا الحب الحقيقي، هو دواء نفسي لا تمنحه أكبر عيادات الأرض.

٧- التأكد من فناء هذه الدنيا

عندما كثر الموت في غزة وأصبح لا نكهة له؛ لم أعد أخشى شيئاً. وحين فقدت بيتي وتعب عمري في لحظة أدركت أن لا شيء يستحق التعلّق به سوى الله وتعلمت أن لا شيء يبقى سوى العمل الصالح.

صغرت الدنيا في أعيننا. رأيت أناسا يقاتلون من أجل متر إضافي في خيمة،  تأملتُهم وقلت: “مسكين أيها الإنسان! هكذا أنت في الدنيا، تقاتل من أجل مكان لن يبقى لك”.

شارك هذه التدوينة:
Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Telegram

شاركنا تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إرسال التعليق

استبانات قد تساعدك