عن محاولات تلبية الحاجات الشعورية الضرورية، في غزة

ألاء – أم،، ومترجمة من غزة

حاجات مفقودة ورغبات موجودة..!

قرأت ذات مرة في منهج من مناهج الإرشاد النفسي منهج [المعطيات الإنسانية] يهتم بالحاجات الفطرية الأساسية للإنسان –  ويفترض هذا المنهج بأن الإنسان يجب أن تكون حاجاته الجسدية والعاطفية ملباة لكي ينجح ويتألق..  ولكن هذا الأمر استوقفني لوهلة.. فسرحت بحالنا في غزة وقلت كيف لنا أن نفعل؟ كيف نبدع وبطوننا خاوية. فأن تطلب من إنسان أن يبدع وبطنه خاوية كأن تطلب من عصفور مقصوص الجناح أن يطير أو كأن تطلب من سيارة أن تسير بلا وقود..!

فالإبداع لا يولد من فراغ، بل من كرامة مشبعة، واحتياجات ملبّاة، وروح لم تُنهكها الحاجة.

والحاجات التي نفتقدها كثيرة.. هي ليست كثيرة، بل نفتقد جل الحاجات إن كانت عاطفية أو جسدية.

ولكن هي فطرة فطرنا بها.. تأبى النفس إلا أن تكون كبيرة

وصدق المتنبي حين قال:

وإذا كانت النفوس كبارا

تعبت في مرادها الأجسام

سأبدأ بأولى الحاجات العاطفية التسعة :

١- الحاجة إلى الأمن و الأمان

كلنا نعلم جيدا أن الأمن والأمان هي أولى الحاجات العاطفية التي تفتقدها النفس البشرية. وكلكم يرى ويتابع أخبار غزة ويرى الحال. ولكن أين يذهب شعب غزة بكل الحاجات العاطفية التي جبل عليها؟

ماذا يفعل حين تهتز الأرض تحت قدميه؟ المدينة التي لا تعرف طمأنينة الليل ولا سكون النهار، حيث يصبح صوت القذائف هو المنبه، وغيابها هو المفاجأة.

في غزة، لا يعني الأمن أن نغلق الباب جيدًا أو نُقفل النوافذ، بل أن نُصلي أن لا يطالنا صاروخ طائش، أو أن لا نُدفن تحت ركام بيتنا ونحن نعدّ الطعام.

كأم، هذا الشعور هو أكثر ما ينهش روحي. أن أحتضن أطفالي ليلاً لا يعني أنني أؤمن لهم دفئاً، بل أنني أهيئ أجسادنا للرحيل معًا إن جاء الموت في غفلة. أن أغفو، لا يعني أنني أنام. أن أنهض، لا يعني أنني نجوت.  فكنا ننام سويا.. فإما أن نعيش سويا و إما يا مرحبا بالموت سويا.

ففي غزة، الأمن ليس غائبًا فقط، بل بات حُلماً مؤجلاً، ورفاهية لا نجرؤ حتى على طلبها.

أتتساءلون كيف تأقلمت مع الفكرة كأم غزية؟

تأقلمت بأني أدركت أنني يجب أن أكون القوة لأن أبنائي بحاجة إلي كملاذ نفسي وعاطفي، حتى حين كنت أنا في أمسّ الحاجة للاحتواء. و لكن يجب أن أعترف هنا أن الأمور ليست دائما  و ردية و كانت في معظم الأوقات تخرج عن سيطرتي لأن العدوان لم يكن عادياً أو متوقعا..

فكيف تريدني أن أعطيه الأمان في ليلة مظلمة والحزام الناري حولنا من كل حدب وصوب؟ في تلك الليلة أذكر جيدا.. أنني كنت أطمئنهم بالكلام.. قلت لهم نحن في مدرسة وكالة آمنة وها أنتم ترون الكل يأتي إلى هنا.. – علما أنه لا يوجد مكان ٱمن في غزة – عانقتهم ونيمتهم جميعا في حضني ناموا وما نامت عيني تلك الليلة.

أحاول أحيانا أن أصنع لهم الأمان بحكاية أرويها بصوتي قبل النوم وسط أصوات القصف فينسون ما يحدث.. يضحكون و يبتسمون ويروونها في اليوم التالي

كنت أعرف أن صوتي ونظرتي وحضني ولمستي قد تكون هي الوطن حين يغيب الوطن

٢– الحاجة إلى الإنجاز

في غزة، حيث تُختبر الأرواح وتُصقل العزائم، لم تكن الحاجة إلى الإنجاز رفاهية، بل ضرورة تُنتزع من بين أنقاض الحياة. لم يكن الأمان مفقودًا فحسب، بل كانت أحلامنا مؤجلة على رفٍ مغبر، ننتظر لحظة نستعيد فيها القدرة على الحلم.

كأم غزية، كنتُ على يقين بأنني سأبدأ من جديد، حتى لو اضطررتُ لنحت الصخر بأظافري. رغم أن الحرب سرقت مني فرصًا كثيرة، لم أسمح لليأس أن يتسلل إلى قلبي.

بأقل القليل حاولت أن أنجز بقدر المستطاع

أنجزتُ حين علّمت أطفالي بقلم مكسور وقلب مقهور، حين صنعت لهم وجبة متواضعة كأنها وليمة، حين نظّفت ركنًا صغيرًا من خيمتنا ليشبه بيتًا، حين قرأت لهم قصة على ضوء شمعة لأطرد بها خوفهم. حين صنعت لابني ناموسية تقيه من ذباب الخيمة. حين حكت لهم أجمل الثياب حين انقطعت الثياب من الأسواق.

أذكر أنني بعد ثلاثة أيام من ولادتي القيصرية، قمتُ لأغسل ثيابهم بيدي، لأراهم دائمًا بأبهى صورة. وفي اليوم الرابع، عجنتُ لهم لأني لم أرد للجوع أن يتمكن منهم.

ورغم أن أسعار الطحين تجاوزت 30 دولارًا  لكيلو الطحين الواحد، إلا أنني لم أستسلم. عملتُ عن بُعد، أترجم وأكتب، لأوفر لأطفالي قوت يومهم.

ولا عجب في ذلك؛  تقول الحكمة: “لن تعرف كم أنت قوي حتى تكون القوة خيارك الوحيد”.

وفي غزة، القوة ليست خيارًا، بل إجبارا وضرورة للبقاء

علّمتني الحرب قيمة الوقت؛ فكل دقيقة في غزة تُعاش بثمنٍ باهظ. عندما غابت الأدوات، أصبحتُ أنا الأداة: أغسل بيدي، أعجن بيدي، وأطهو على نار الحطب.

أسندتُ جزءًا من الأعباء إلى أطفالي، فكانوا يشاركونني في إحضار الماء وتنظيف الخيمة، ليشعروا بأنهم جزء من الحياة، لا مجرد متلقين لها.

الإنجاز في غزة ليس شهادة تُعلّق على الجدار، بل صمود يُغرس في القلوب. أن تبني أبناءك في ظل القصف، أن تزرع الأمل في أرضٍ جُرّدت من كل شيء، هذا هو أعظم إنجاز.

٣- الحاجة إلى المكانة

في الحرب تساوت الصفوف، لا مكانة تُذكر ولا ألقاب تُقال، الكل كان يفكر فقط بكيفية النجاة، بكيف يحمي أولاده، كيف يؤمن لقمة يومه. لكن رغم كل شيء، لم تختفِ المحاولة.

حتى وإن كنا نعيش في الخيام، أو ننتقل من مأوى إلى آخر، كانت فينا رغبة داخلية للحفاظ على كرامتنا ومكانتنا، وأعلم أنني فقدت المكان لكني لم ولن أفقد المكانة.. عملت جاهدة لأثبت لنفسي قبل العالم أننا لا نُقهر. كنت كامرأة غزية، رغم الألم، أحافظ على هيبتي أمام أولادي. كنت أنظف الخيمة، وأرتب الفرشة، وأطبخ إن توفر شيء وأشعر أولادي أنهم يستحقون الأفضل.

المكانة في مثل تلك الظروف لم تكن سلطة أو مال، بل كانت في القدرة على الوقوف، في احترام الآخرين لك، في نظرة طفل يشعر بالأمان في حضنك. كانت المحاولة بذاتها مكانة.

٤– الحاجة إلى الخصوصية

حيث تتقاطع الخيام وتضيق المساحات، تتناثر حكايات لا تُروى، تهمس بها الرياح وتُخبئها العيون. وتُجبر النساء على التكيف مع واقع يفتقر إلى أبسط مقومات الخصوصية. هناك.. في زوايا المخيمات، حيث تتشارك العائلات المراحيض والمطابخ، تُختبر الحدود والمساحات الخاصة بشكل غير مسبوق. و تصبح الخيمة هي البيت. فتجد بعض النساء اضطررن لكشف حجابهن داخل الخيمة؛ لا تهاونا في الدين بل بحثا عن دقيقة راحة في ساعة حارة.

ليست المسألة في ظاهر اللباس، بل في عمق المعاناة التي تجعل من الخصوصية ترفًا، ومن الخيمة بيتًا رغم أنها بلا جدران. بلا جدران حتى أنك لا تستطيع الاتكاء أو الإسناد عليها..!

بين زقاق الخيام هناك قصص وحكايا لا تحكى.. كنت أسمعها ولا أعيدها لخصوصيتها رغم غياب الخصوصية الحقيقية وسط الخيام المزدحمة، حيث صوت الجار يتردد في أذاننا وهو يتشاجر مع زوجته ليلا.. وصوته مسموع و لو همسا..!

فهل يا ترى نستطيع الحصول على الخصوصية رغم غيابها؟

حسنا؛ لقد حاولنا بقدر الإمكان أن نحافظ على خصوصيتنا الداخلية حيث أننا كنا نحرص على أن نستر أنفسنا ونحمي أولادنا من الانشغال بما لا يعنيهم، نمنعهم من التنصت، ونزرع في قلوبهم وأرواحهم معنى الاحترام والحرمة عبر ترديد الآية الكريمة: «ولا تجسسوا».

وكان رجالنا يطبقون الآية الكريمة: ” واغضض من بصرك”

وَلَم يَكُن خوفُ الرجالِ على نسائهم وحدَهن، بل كان خوفًا يتعدّى حدود البيت ليشملَ كلَّ من حولهم. كانوا حُماةَ القلوبِ قبل أن يكونوا حُماةَ الجدران، يحملون همَّ الجارِ كما يحملون همَّ الزوجةِ والابنة.

كنا أيضا نعلم أبناءنا أن الصمت أحيانًا عبادة، وأن ستر الناس خلق عظيم، حتى في مكان تتقاسم فيه العائلات الجدران الوهمية والهموم الحقيقية. كنا نخلق الخصوصية من الوعي، من الاحترام، ومن الحياء المغروس في قلوبنا رغم انكشاف كل شيء.

كنتُ أحاول تعويض غياب الجدران بلمسات من الحياء والستر، حتى وقت تبديل الملابس، كنت أرفع شرشفًا بسيطًا كستار مؤقت، أصنع به غرفة من قماش، لأمنح أطفالي شعورًا بالخصوصية في عالم مكشوف. لم تكن لدينا غرف، بل خيمة واحدة نتقاسمها، لكنني آمنت أن الأم تستطيع بحرصها أن تصنع لأبنائها جدرانًا من الستر، حتى في العراء.

هكذا، رغم ضيق المكان، خلقنا لحظات من السلام والسكينة، حتى وإن كان العالم من حولنا يعج بالضجيج والاضطراب. كانت الخصوصية هنا ليست فقط حيزًا ماديًا، بل شعورًا مقدسًا بالحدود، حماية للنفس والروح، وحصنًا من التدخلات التي قد تجرح أو تزعزع.

٥- الحاجة إلى العلاقات الحميمية

في زمن الحرب، لم تكن الخسائر كلها حجارة مهدّمة أو بيوتاً مدمّرة، بل كانت الأشدّ مرارة ما لا يُرى… تلك اللحظات التي كانت تُصنع في دفء البيت، في همسة بين زوجين، في ضحكة خفيفة على موقد المساء، كل ذلك تاه بين أنين الأطفال وضيق الخيمة وقلق النجاة.

فقدنا حميمية الأصدقاء والجارات  فلكأن الريح حملتهن إلى جهات متفرقة لم تعد أكواب القهوة تتصافح على صينية الضيافة ولا الكلمات تقال على عتبة بيت كل منهن.

أما التأقلم فكان دائما محاولة تبوء بالفشل.  كيف يُطلب من القلب أن ينسى من شبّ معه، من اقتسم الخبز والحلم؟ صديقتي التي كانت ظلّي، غادرت هي وبقيت أنا؛ غادرت وبقيت أحمل صورتها كوشم على قلبي.

ورغم كل شيء، كنا نحاول أن نخلق من الوجع دفئًا… أن نغزل من الحنين خيوط حب نلف بها أولادنا… أن نبقى أوفياء لمن رحلوا، ونعيش لأجل من بقوا. لأننا إن نسينا الحميمية، متنا.

٦- الحاجة إلى التحكم

أتعرفون معنى كلمة نزوح؟ النزوح هو الانتقال بروح ممزقة من مكان أنت مستقر فيه إلى مكان لا يشبهك بشيء. من الاستقرار الى الفوضى ومن التحكم إلى الانفلات.

أذكر أنني في بدايات النزوح، كنت غريبة في هذا العالم الجديد القاسي، كأنني ضيفة عابرة في مشهد لا يشبهني. كنت أظنها أيامًا معدودة، لم أحمل شيئًا من بيتي سوى روحي المتعبة.

كانت أول ليلة من النزوح كصفعة على وجه الطمأنينة: نمتُ بجوار سلة قمامة في صف مدرسي، بلا غطاء، بلا جدار، وبلا أدنى ملامح للبيت الذي كنت أعرفه.

في اليوم التالي، تعرّت الحياة من رفاهها، خلع أطفالي ملابسهم المتسخة، ولم أعرف أين أغسلها أو كيف! كان الحمام في أقصى المدرسة.. تقريبا على بُعد مائتي متر، وكان الشتاء بالخارج قارسًا، مجرد اصطحاب ابنتي ليلاً للحمام كان مهمة بطولية.

وعندما كان يُصاب أحد أطفالي بالإسهال، كان الأمر يتجاوز حدود الإزعاج ليصبح كارثة حقيقية. تخيّل طفلًا يتألم ويمشي مسافة طويلة ولا يستطيع الانتظار، بينما أمامه طابور طويل على باب دورة مياه واحدة مشتركة! الموقف ليس فكاهيًا كما قد يبدو للبعض، بل مأساوي حد البكاء… مشهد يختصر حجم الانتهاك لكرامة الإنسان حين تُسلب منه أبسط حقوقه.

كل يوم كان يسرق مني شعور السيطرة، وكان الخوف يتسلل إلى قلبي، لكنني رفضت أن أعيش كضيفة في حياتي. حين فهمت أن النزوح قد يطول، بدأت أعيد ترتيب عالمي من جديد. اشتريت أواني بسيطة، سلة للقمامة، طشتًا للغسيل ، ووضعتُ الملابس في كراتين صغيرة، كأنني أزرع فيها نظامًا في فوضى المكان. لم تكن مجرد صناديق، بل خزائن مؤقتة تحاول أن تحفظ كرامة الأيام، أن تُبقي على ملامح البيت الذي سُرق، والدفء الذي تلاشى. كانت الكرتونة بالنسبة لي خزانة الروح، وركن النظام في فوضى النزوح.

وحين جاءني الخبر: بيتك دُمّر. صمتت الحياة للحظة، ثم نهضتُ. أدركت أن كل شيء قد ضاع، لكنني ما زلت أملك إرادتي. وسط فوضى لا تُحتمل، قررت أن أكون نقطة التوازن في حياة أولادي.

رغم الخراب، أردت أن أعيد لأطفالي الشعور بالتحكم، أن أخلق لهم روتينًا يمنحهم طمأنينة وسط الفوضى. خصصت وقتًا للطعام، للحكاية، للدعاء، وحتى للرسم والنظافة والدراسة. أردتهم أن يشعروا أن هناك نظامًا وسط اللانظام، بيتًا وسط اللابيت، حياة في قلب النزوح.

قلت لهم: “نحن لا نختار أماكننا، لكن نختار كيف نعيش فيها”. علمتهم أن يتحكموا في ردود أفعالهم، أن يصنعوا من الخوف درعًا، ومن الانتظار أملًا. حين عجز العالم عن منحهم الأمان، صرت لهم الوطن، الحضن، والنور في عتمة الخيمة.

٧ – الحاجة إلى الاهتمام

حاجة أخرى كنا نفتقدها بشدة ألا وهي الاهتمام؛ فالاهتمام كان من أصعب الحاجات اللي فقدناها كأمهات غزّيات تحت الحرب. عندما كان كل شيء حولك ينهار، والضغوط أكبر من طاقتك، من السهل جدًا أن تنعزل أو تعتزل كل شيء حولك. لكن رغم كل هذا، ورغم فقداننا لأبسط أشكال الاهتمام بنا، كنا نحن من نعطيه

كيف؟

كنا نطبطب على أطفالنا وقلوبنا مكسورة، نسمعهم ونحضنهم، حتى لو أننا نحن من كنا بحاجة لحضن. كنا نمرّ على الجيران نطمئن عليهم، ونقدّم لقمة لمن يحتاج ، رغم أننا لم نجدها

كنا دائمآ نستحضر الٱية الكريمة:

” و يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة”

رغم الجوع والدمار،  ما غاب عن قلوبنا العطاء.

قدمنا الاهتمام حتى ونحن مهملين، أعطينا الحنان حتى وقلوبنا عطشى، وواسينا رغم أننا كنا محتاجين المواساة. لأنه ببساطة، تربينا على إنه الإنسان قيمته بما يمنح، لا بما يُمنح له.

٨- الحاجة إلى الانتماء المجتمعي

الحاجة إلى الانتماء المجتمعي لم تغادر قلب الفلسطيني يوماً، بل ازدادت تجذراً فينا كلما حاولوا اقتلاعنا. نحن أبناء غزة، نشأنا على القيم، وتشربنا الأخلاق، وكبرنا في حضن الدين والوطن، فلا عجب أن ظل الانتماء نابضاً في قلوبنا رغم الجراح.

حين نُزعنا قسراً من بيوتنا، وحملتنا الحرب إلى خيامٍ لا تُشبهنا، لم نكن وحدنا. خلقنا من هذا الشتات مجتمعًا جديدًا، نسجناه من المعاناة المشتركة، من كأس شاي يتقاسمه الجار، ومن دعوة في جوف الليل.

وحين فُتح لنا باب العودة، لم نبالِ بمشقة المسافة، ولا بحجم التعب… تسع ساعات مشياً على الأقدام، أحمل ابني على صدري، وأحمل قلبي في كفي، أعود إلى حيث أنتمي، إلى الأرض التي زرعت فيها أول خطواتي، إلى تراب بيتي، إلى رائحة الياسمين في شوارع طفولتي… إلى الوطن الذي، رغم كل شيء، ما زلت أغنّي له: هنا بيتي… وهنا قلبي.

٩- الحاجة إلى الغاية والهدف

في هذه الحرب، لم تكن الطائرات وحدها من تسفك الدمار، بل كانت النوايا المسمومة تقصف أرواحنا، تستهدف فينا الغاية قبل الجسد، وتجتث الوسيلة من الجذور، وتغتال الفضيلة لزرع الرذيلة. لم يكن الهدف أن تُدمر البيوت فقط، بل أن تنهدم الإرادات، وتُطفأ في القلب كل شرارة حلم.

ضاعت الغاية من العيون حين انطفأت مصابيح المدارس، وتحوّل الكتاب إلى رماد، وبات المستقبل خريطة بلا ملامح. صار الغزيّ يركض لا خلف علم أو طموح، بل خلف شربة ماء، وكسرة خبز، وأمان لحظة. تقلّصت الأحلام إلى الضرورة، وانكمش الأفق حتى بات الهواء شحيحًا.

لكننا شعب لا تُطفئه العواصف.

فالغاية في غزة، لا تموت، بل تُبعث من رحم العجز، من يد أم تُلقّن طفلها الأمل على أنقاض مدرسة، ومن أب يغزل من خرق الحياة خيمة تحمي كرامته.

في غزة، تولد الغاية من الفقد، وتُروى بالبكاء، وتنمو على صخرة الصبر.

العدو أراد أن يسلبنا الإيمان بالحلم، فحلمنا أكثر.

أراد أن يفرقنا، فتوحّدنا.

أراد أن ننهار، فبنينا أنفسنا من الحطام.

كنا صفًا لا يميل، قلوبًا تنبض على إيقاع الصمود، وأرواحًا تتلو الأمل كأنه نشيد وطن.

وما أضيق العيش لولا تلك الشعلة الصغيرة: فسحة الأمل… التي قاومت برد الليل، وغبار الحصار، لتقول لنا: ما زال الغد ممكنًا.

سنزرع الحياة في باحات الدمار، وننقش الكرامة على جدران الخيام. سنُعيد تشكيل الوطن بأيدٍ خُدشت كثيرًا، لكنها لم تفرّط يومًا في الحلم.

سنبدأ لا من الصفر، بل من قلب الجرح، ومن وهج الإيمان، لأن الغزيّ لا يعرف الاستسلام… بل يصوغ المجد من الركام.

شارك هذه التدوينة:
Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Telegram

شاركنا تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إرسال التعليق

استبانات قد تساعدك