كيف يمكن أن نفرغ مشاعرنا؟ إجابات من غزة

آلاء – أم من غزة

يحتاج الإنسان إلى شحن طاقته النفسية، كما يحتاج للأكل أو كما تحتاج السيارة للوقود.

لكن ماذا لو أصبحت كل “محطات الشحن” مُعطّلة؟ 

ماذا نفعل حين صارت أماكن الترويح عن النفس مصدر ترح لا مصدر فرح، وغلاء الأسعار أصبح كالنار؟ 

ماذا نفعل حين خرجنا للبحث عن الهواء، فوجدنا الشوارع خالية من الشجر، مكتظّة بالحجر، كأنها تنطق بالضجر؟ 

ماذا نفعل حين تحولت صفحات التواصل والترفيه إلى شيء لا حياة فيه؟

في ظلّ هذا كله، يبقى السؤال: 

أين نجد العافية النفسية؟ كيف نتنفس رغم الحصار؟

كيف يمكن أن نُفرغ مشاعرنا في غزة؟ 

ونحن لا نملك حتى حاوية نلقي فيها أوجاعنا دون أن تمتلئ؟ 

كل الطرق إلى الراحة مقطوعة، وكل نوافذ الترفيه مغلقة و ممنوعة!

وهنا؛ لا يُتاح للكل جلسات علاج نفسي، ولا يَملك الناس رفاهية الوقت أو المكان للبوح في عيادة هادئة.  كما أننا لم نعد ننتظر مهرجانات أو سفراً أو مقاهٍ.

لكنها نجد في آية تطمئنها، أو يد تمتد دون سؤال، أو صوت ينادي: “كيفك اليوم؟”، بلسمًا لا يقدّمه أي دواء.

نبحث عن مخرج، عن حضن، عن كلمة، عن ضوء صغير في عتمة كبيرة.

كلمت صديقتي رهام، وهي تعمل مرشدة نفسية، وسألتها ببساطة: 

ما أفضل شيء تقومون به للتفريغ النفسي؟


قالت بعد لحظة صمت: 

“أتريدين الصراحة أم كلام كتب وجامعات؟” 

قلت: “بلى، أريد الصراحة”

قالت: 

“الدعم المادي والعيني هو أكثر ما يُفرح الناس”.

“أحيانًا نوزّع حتى أساور تعريفية بسيطة على الحالات، فتجدين الناس يتهافتون عليها وكأنها هدية ثمينة أو طرد غذائي مميز!”

“ليس لأنهم محتاجون لها فعليًا، بل لأنهم محرومون من كل ما يُشعرهم بأنهم مرئيون، محسوبون، موجودون.”

وأضافت: 

“ولكن هناك فئة تريد أن تتكلم فعلًا”

لكن حين يجدون أذنًا تصغي، تشعرين في عيونهم لحظةُ راحة، حتى وإن لم تتغير ظروفهم أو حتى ان لم نستطيع تقديم المساعدة لهم. فبمجرد أنه فضفض يرتاح!”

أغلقتُ المكالمة وأنا أشعر أني لم أجد إجابتي الشافية. 

ليس لأن رهام لم تُجب بصدق، بل لأن الواقع أكبر من كل وسائل التفريغ المعروفة. و لأنه لا يتاح للجميع الحصول على مساعدات نفسية.

وعندما لم أجد ما يروي قلبي في حديث الأخصائية النفسية، توجهت لمن أعرفهم؛ لصديقاتي وأفراد عائلتي، وسألتهم من قلبي:

“مالذي تقومون بفعله ليخفف عنكم في ظل هذه الأوضاع؟”

أجابت بسمة، أختي، بابتسامة خفيفة: 

“أكثر ما يُسعدني هو نوم أطفالي؛ أفتح المصحف، أقرأ بهدوء، وأصلي ركعتين أتقرب بها إلى الله، لعل الفرج قريب.”

“أحاول أن أرسم ما يخطر ببالي، أشعر بعدها بهدوء رهيب”.

وحين سألت زوجي قال ببساطة: 

“أحب ساعة الليل بعد أن ينام الأطفال، أستمع لموسيقى هادئة، أسترخي، وأحاول أن أهرب من الضجيج”.

أما صديقتي إيناس، الصدوقة التي تعرفني أكثر مما أعرف نفسي، فأجابت بعفوية: 

“والله لما أحكي معك أنسى الدنيا، هذا أكثر شي بيفرّغني و بيفرحني “

سارة، التي حملت قليلا من الوعي بداخلها، قالت:

“أخذت دورة تعلّمت فيها تمارين تنفس، أحيانًا أسرق وقتي من الغسيل والجلي والخيمة، و أهرب من أولادي أتأمل سقف الخيمة وأتنفس، فقط أتنفس.”

أما رزان، فقالت: 

“كنت أمارس الرياضة في الجيم، لكنه قُصف، فأصبحت أمارسها في خيمتي، في الصباح الباكر، كي لا تضيع طاقتي في الهم فقط.”

إسلام قالت “عندما أشعر بالتعب والضغط الشديد فقط  أنام، حينها أشعر أن العالم كله زال عن كتفي.”

سلوى أجابت بروح عملية: 

“أرتاح عندما أخلق روتين يومي صحي؛ أنتهي من أعباء المنزل مبكرا، وأجلس في بيئة نظيفة وهادئة.”

أما حنين، فقالت بضحكة صادقة:

لو أحصل على كاسة شاي أو براد سكر مظبوط… والله بنسى الدنيا!”

ابنتي ديمة أجابتني بكلمات بسيطة لكنها عميقة: 

“أكثر ما يُسعدني هو المياه، حمام بارد، أمشي على البحر، ألعب بالمَيّ.”

أما دانة و حلا بنتيّ الصغيرتين فأجابتا ببراءة الأطفال:

قالت حلا:

” أنا أكتر شي بحب ألعب و أتمرجح

حتى الأطفال، يهربون من رعب المشهد إلى خيال اللعب، يلعبون بيت وبيوت و يرسمون بيوتًا لها أبواب لا تُهدم، وسماءً لا تُقصف، وأحلامًا لا يسرقها الخوف.

أما دانة قالت بابتسامة خجولة تختبئ خلفها مرارة الواقع: 

“أحب الرقص على الأغاني الشعبية”.

ثم أردفت بصوت خافت: 

“لكننا نراعي دم الشهداء… فنخفض الصوت”

أحيانًا نقيم حفلة صغيرة للأطفال، بصوت منخفض، فقط لنرسم على وجوههم لحظة فرح، حتى لو كانت هامسة… حتى لو كانت من خلف الدموع.

وحين سألت أمي وأبي، أجابا بهدوء فيه حنين: 

“أن نجلس تحت هذه الشجرة، معا وسويا أمام بيتنا الجميل… هذا يكفينا. يكفي ما ابتعدنا عنه في النزوح”

أما أنا… 

فأكثر ما يُسعدني هو الكتابة. حين تصبح وسادة للتفريغ؛ ينام أطفالي فأجلس ساعة بهدوء أكتب كل ما يخطر ببالي.

كما يستهويني التطريز؛ فأمضي ساعات و انا سعيدة لا أعرف كيف مضت.

نصنع الفرح من اللاشيء… ونؤمن أننا ما دمنا نحيا، فثمة نور لا ينطفئ.

و أقولها ثانيًا و ثالثاً و رابعاً  وعاشراً

” و نحن نحب الحياة ما استطعنا إليها سبيلا”.

 

شارك هذه التدوينة:
Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest
Telegram

شاركنا تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إرسال التعليق

استبانات قد تساعدك